فتيان الجنة" وعملية التكريس عبد الله المطيري
نشر في الفترة القريبة الماضية العديد من التقارير وبث العديد من الصور والمشاهد عن جماعة "فتيان الجنة" التابعة لتنظيم القاعدة في العراق وهي جماعة انتحارية تتراوح أعمار أفرادها من 11- 16 سنة حسب التقارير. تتكون هذه الجماعة من عدد من الخلايا كل خلية لا يتجاوز عددها خمسة أطفال. و من التسجيل الذي تم بثه ظهر عدد من الصبية الصغار وهم يحملون أسلحة و يهددون ويتوعدون ويرددون العديد من الشعارات والمقولات التي اعتدنا على سماعها من أفراد القاعدة. في الغالب أن نشاط هذه الجماعة يستهدف جماعات " الصحوة " وهذا مصطلح مختلف عما يستخدم هنا في السعودية فهو مسمى يدل على جماعات عراقية تحارب القاعدة. وتنفذ هذه الجماعة أهدافها عن طريق عمليات انتحارية يقوم بها هؤلاء الأطفال.
في أحد المساجد، وفي روضة المسجد ( المنطقة التي خلف الإمام مباشرة) يقف عدد من الأطفال الصغار التي تتراوح أعمارهم من العاشرة إلى الخامسة عشرة. يلبسون بطريقة متشابهة ويجلسون بجانب بعضهم. وحين سأل أحد المصلين عن سبب وجود هؤلاء الأطفال في الروضة التي غالبا ما يتواجد فيها كبار السن أجاب أحد المصلين أن هؤلاء الأطفال معتكفون وأنه قد مر على بقائهم في المسجد عدة أيام لم يغادروه أبدا.
في إحدى مدارس البنات تدخل طالبة في الصف الثاني متوسط، ضمن البرنامج الدعوي، على طالبات الصف الأول المتوسط لتلقي عليهن موعظة بصوت خاشع محذرة زميلاتها من عذاب الآخرة والانغماس في الدنيا واللهو والابتعاد عن الشهوات ولم يفتها أن تحذر من استخدام العطور التي قد تغري حارس المدرسة، كما حذرتهن من متابعة التلفاز والاستماع للأغاني.
في عام 2004 زارني أحد الأشخاص المشرفين على حلقة تحفيظ القرآن ليطلب مني طلبا بدا لي ذلك الوقت غريبا، طلب مني بوصفي معلما في المرحلة الثانوية أن أتابع عدداً من الطلاب القادمين من المرحلة المتوسطة وأتأكد من عدم اختلاطهم ببقية الطلاب خارج الصف ورفع ما يشبه التقرير اليومي له عنهم. كان يؤكد على قضية عدم اختلاطهم مع بقية الطلاب لأن هذا ما سيفسد ما تم إنجازه خلال عدد من السنوات من التنشئة.
أنا متأكد أن عدداً كبيراً من القراء لديهم عدد كبير من الأمثلة في هذا السياق. والمطلوب هنا أن نقوم بعملية تفكير هدفها محاولة فهم هذه التصرفات التي تأتي، ونقطة الانطلاق هي تلك الطبيعة المتعلقة بتصرفات الأطفال وتفكيرهم واهتماماتهن الطبيعية التي تقول إن الطفل بحسب نموه العقلي والشعوري ينشغل عادة بما يتوافق مع سنه من الاهتمامات واللعب والتسلية والبعد عن التفكير المجرد الذي يتخطى الحياة اليومية المعاشة. هذه طبيعة الأطفال ولذا تأتي التربية في هذا السن لتلبي هذه النزعة وتنميها وتنتج منها نفسا متوازنة ومتقبلة للحياة والعيش.
هذا ما نلاحظه في الغالبية من الأطفال وطريقة حياتهم، في الغالب أنهم مهتمون باللعب والرياضة وتكوين الأصدقاء والتفاعل معهم، على أن تتطور اهتماماتهم في المستقبل مع تطور معرفتهم وتقدمهم في العمر. هذا هو الوضع الطبيعي ولكن ليس كل الأطفال تتاح لهم الظروف الطبيعية للحياة.
نعرف الكثير من الانحرافات التي قد تحدث للأطفال وتتسبب في حرف حياتهم إلى طرق مجهولة، تفكك الأسرة، الاعتداءات الجنسية، العنف الأسري، التشرد وغيرها مما أصبح معروفا اليوم، أنه خطر يهدد حياة الأطفال ولذا نجد الكثير من المنظمات والمؤسسات الحكومية والأهلية في شتى أنحاء العالم تقام وتدعم من أجل الحد والتخفيف من خطر هذه التجاوزات.
إلا أن ما سنتحدث عنه هنا هو عملية لم يتم الوعي بها حتى الآن على أنها خطر كبير على حياة الأطفال ويمكن تسميتها بعملية التكريس. والمقصود بعملية التكريس أن يخضع الطفل لبرنامج متكامل محكم ومكثّف من أجل تحقيق تغيير شبه جذري في نفسية وتفكير الطفل لخلق شخصية جديدة تحقق أهدافاً معينة ومحددة. هذه العملية قديمة قدم التاريخ وموجودة حتى في الثقافات البدائية ولها أكثر من هدف، فالقبائل القديمة مثلا كانت تقوم بعملية التكريس من أجل خلق مقاتلين مبكرين في حالة الحروب الطويلة. وعملية التكريس هذه ليست فقط من أجل القتال والحرب بل إنها ممكن تقام للأطفال من أجل إدخالهم في تخصص أو اهتمام معين وإلزامهم بقوانينه وضوابطه. لمن أراد الاستزادة من هذا السياق يمكنه الرجوع إلى كتاب متوفر في الأسواق بعنوان " البحث عن التاريخ والمعنى في الدين" لمؤرخ الأديان ميرتشيا إلياده.
يزداد الاهتمام بالتكريس لدى الجماعات السرية أو المحظورة، فهي تحتاج إلى كوادر على مستوى عال من التأهيل. يستجيبون للأوامر ولا يحملون نوازع الشك والرفض والتفكير والتساؤل. وكلما ازدادت سرية الجماعة أو محظورية النشاط الذي تمارسه ازدادت قيمة التكريس وأصبحت أساسية ولا يمكن لهذه الجماعة تحقيق أي نجاح دون القيام بها على أتم وجه ومن أجل هذا الهدف يتم استغلال كل الظروف لإنجاحها، نحتاج هنا لمثال.
" فتيان الجنة " مجموعة من الأطفال خضعوا لعملية تكريس مكثفة من قبل القاعدة من أجل تحويلهم إلى قنابل موقوتة. كيف تم ذلك؟ هذا السؤال سيحيلنا مباشرة إلى عملية التكريس التي خضعوا لها. في البداية عزل كامل عن المحيط الخارجي، ثم القيام بعملية ما نسميه " غسيل مخ" كامل من أجل توجيه الأطفال لهدف محدد. طبعا حين يكون أحد الأطفال قد قتل أخ له أو أب فإن هذا سيساعد كثيرا على نجاح عملية التكريس من خلال التركيز المكثف عليه وتحويل الحياة كلها إلى عملية انتقام لا أكثر.
هذا مثال على حالة صارخة من عملية التكريس وهي شديدة الوضوح، لكن هناك عمليات تكريس أقل وضوحا وأهدأ من الظاهر لكنها تحتوي على كل ممارسات التكريس وهي العملية التي تحول الطفل من طفل يعيش في بيت أهله ويلعب مع أصدقائه إلى معتكف لأيام في عزلة كاملة عن المجتمع الخارجي. ويحول الطالبة من الاهتمام مع زميلاتها بالدراسة وشؤون الفتيات الصغار إلى واعظة صغيرة بينها وبين صديقاتها مسافات طويلة.
لماذا عملية التكريس خطيرة؟ أليست بعض نتائجها مفيدة؟ في البداية وبغض النظر عن النتائج فإن العملية ذاتها عملية خطيرة لأنها مسخ لطفولة الطفل وتحريف كبير لنشأته الطبيعية والتطور الطبيعي لشخصيته. إنها فقد للطفولة وينتج عنها في المستقبل مشاكل نفسية عميقة بسبب عملية الانحراف الهائلة هذه. أما من ناحية النتائج فإن عملية التكريس تستخدم في الغالب لأغراض مشبوهة ومن أجل استخدام الأطفال لأغراض لا يعون حقيقتها. إنها تحويل لهم لمجرد أدوات في أيدي الجماعات المنظمة. وإن كنا أصبحنا اليوم أكثر وعيا بالتكريس الصاخب فإننا لا نزال لا نعي عمليات التكريس الهادئة، يفرح الآباء بتوجهات أبنائهم الخيّرة في الظاهر من خلال مظاهر التدين الظاهرة ولكنهم لا يعلمون أن خلف هذا تشوهاً نفسياً كبيراً وفقدا للطفولة مما يعني مشكلة حقيقية قد تنتهي بالقتل أو بالمرض النفسي العضال أو نهايات أخرى هي بالتأكيد غير سعيدة.
*نقلا عن جريدة "الوطن" السعودية